الخميس، 21 أبريل 2016

عندما دفعت أمريكا حق حمايتها للدولة العثمانية

أسامة السيد عمر


في القرن السادس عشر الميلادي، وبعد أن بسطت الدولة العثمانية سلطانها على مصر والشام، استطاعت بفضل بعض القادة كعروج وأخيه خير الدين بربروسا من السيطرة على سواحل البحر المتوسط، والتحكم في حركة الإبحار فيه لوقت طويل من خلال هذين الأخوين اللذين قادوا أعظم عمل بحري في تاريخ الحضارة الإسلامية تحت ظل الدولة العثمانية، وأرغموا جميع السفن المارة فيه من جميع دول العالم على دفع ضريبة سنوية لحمايتها.
ولد عروج وخير الدين لوالد ألباني من بقايا الفاتحين المسلمين الأتراك وأم أندلسية هربت بإسلامها من طغيان محاكم التفتيش التي انتشرت في اسبانيا والبرتغال بعد سقوط الأندلس، فكان ميلاد عروج في العام 879هـ - 1474م، وكان ميلاد خير الدين في العام 874هـ - 1470م فكانت الأم تقص على أطفالها عروج وخير الدين ومحمد إلياس وإسحاق قصص العذاب والهوان الذي يتعرض له المسلمون في الأندلس، وتروي لهم حكايات المقاومة الشعبية الإسلامية الباسلة لمسلمي الأندلس الذين رفضوا تغيير دينهم، فربتهم على طاعة الله وحب الجهاد في سبيله، فنشأ الأطفال على حب الجهاد والتعلق به، وخاضوا جميعا غمار البحر وأهواله واشتهر منهم عروج وخير الدين الذين عرفهما الأوربيون باسم "أصحاب اللحية الحمراء"، بعد أن حاصروا الأوربيين في البحر لعشرات السنين واستولوا على الكثير من سفنهم، وحرروا الآلاف من الأندلسيين المعتقلين في محاكم التفتيش والموت.
ولعلنا عندما نذكر لقب ذو اللحية الحمراء تعود بنا الذاكرة إلى أفلام قراصنة البحار التي كنا نشاهدها ونحن صغار حين يظهر في الفيلم قرصان بلحيةٍ حمراء وعين واحدةٍ ويدٍ مقطوعةٍ وقدمٍ خشبيةٍ في إشارة للأخوين بربروسا وهذه هي الصورة التي وصفها به الكتاب الأوروبيون، ولكنه لم يكن كذلك، بل كانوا فرساناً عظماء وفاتحين قادوا جند المسلمين في البحر وانتصروا على الأوروبيين في مواقع عدة، حتى شَوَّهَ المؤرخون الأوربيون سمعتهم، ونعتوهم بالقراصنة أصحاب اللحى الحمراء.
ذكر المؤرخون أنه جرت اتصالات بين السلطان العثماني سليم الأول والقائد عروج، طلب منه السلطان الإبحار بأسطول عثماني من تركيا نحو المتوسط واختراق جميع الحصون الأوروبية في البحر وصولاً للأندلس واقتحام الحاميات المتواجدة على اليابسة في الليل والوصول للكنائس وتحرير المسلمين المعتقلين في تلك الأقبية تحت حكم ما يسمى محاكم التفتيش والموت، وبالفعل قام عروج مع إخوته بالمهمة على أكمل وجه لأكثر من مرة، واستطاع تحرير عشرات الآلاف من المعتقلين ونقلهم إلى بر الأمان في الجزائر حتى قيل إن عدد من حررهم عروج بلغ سبعينَ ألفَ مسلمٍ.
يتحدث عنهم الكاتب جهاد الترباني في كتابه "مائة من عظماء أمة الإسلام غيروا مجرى التاريخ فيقول: "وانتشرت قصص عروج بين البحارة، وتناقل أهل أوروبا قصص ذلك الشبح المرعب الذي يتسلل في جوف الليل ولا يستطيع أحد الوقوف بوجهه، أما الأندلسيون المسلمون فقد أسمَوْه (بابا أروج) أو (بابا أروتس) أي (الأب عروج) في لغة الأندلسيين الأوروبيين، وذلك من فرط احترامهم وتقديرهم لهذا البطل الذي خلّصهم من ويلات محاكم التفتيش، فحرف الإيطاليون (بابا أروتس) إلى (بَربَروس) وتعني بالإيطالية الرجل صاحب اللحية الحمراء، رغم أن لحيته لم تكن ذا لون أحمر".
وفي حملاته، اصطحب عروج معه إخوته، إسحق، وإلياس، وخير الدين، فاستشهد إلياس رحمه الله في جهاده، بينما سقط عروج في أسر فرسان القديس يوحنا في جزيرة "رودس"، ولكنه استطاع أن يحرر نفسه، وانتقل عن طريق البحر إلى إيطاليا، وهناك استولى على سفينة من سفن الجيش الصليبي، وأبحر بها إلى مصر حيث قابل السلطان المملوكي الغوري رحمه الله، الذي أهداه سفينة كاملة بحمولتها ومجاهديها، ومن الإسكندرية انطلق عروج مرة أخرى ليلقى أخاه خير الدين ويكملان حملات الجهاد، ولكن وفي إحدى حملات النصارى على مدينة تلمسان الجزائرية وعن طريق أحد حكام الجزائر المتعاونين مع الإسبان، حاصر الصليبيون عروج وجنوده من الأتراك والجزائريين الذي دافعوا حتى الرمق الأخير، ولم يفروا من أرض المعركة، فلقوا الله شهداء.
ومن فرط غيظ النصارى من عروج وما فعل بهم في بحر المتوسط، قطعوا رأسه وأخذوها ليطوفوا بها في مدن أوروبا الكاثوليكية التي دُقت بها أجراس الكنائس احتفالًا بمقتله.
وبعد استشهاد عروج، تقلد الراية أخوه خير الدين بربروسا الذي صمم على الثأر لدم أخيه المجاهد رحمه الله، فجهز سفنه، واتجه بها مباشرةً إلى تونس واستطاع تدمير الحامية الإسبانية هناك، وحررها من الصليبيين ومن تعاون معهم من العرب، ثم حرر الجزائر وجزر البليار الإسبانية، وعندها أعلن البابا بولس الثالث في روما النفير العام في أرجاء أوروبا الكاثوليكية، فتكوّن تحالف صليبي ضخم من 600 سفينةِ تحمل نحو ستينَ ألفَ جنديٍ بقيادة (أندريا دوريا) وذلك لإنهاء الإسلام كلية في البحر الأبيض المتوسط، بينما تألفت القوات العثمانية من122 سفينة تحمل اثنين وعشرينَ ألفَ جنديٍ فقط، والتقى الأسطولان في معركة "بروزة" عام 945 هـ 1538 م، وكان يوماً من أيام الله انتصر فيه المسلمون على النصارى في واقعة خلدها التاريخ، وأصبحت بذلك البحرية العثمانية هي المسيطرة على البحر المتوسط لثلاثةِ قرونٍ متتابعة.
وبعد هذا الانتصار، أصبحت دول أوروبا تدفع الضريبة للدولة العثمانية الإسلامية مقابل السماح لسفنها بالمرور في البحر المتوسط تحت حماية الأسطول العثماني، حتى جورج واشنطن أول رئيس للولايات المتحدة الأميركية دفع الضريبة للدولة العثمانية لتوقيع معاهدة يضمن مرور سفنه في البحر المتوسط دون الاعتداء عليها، وكانت هذه المعاهدة الوحيدة التي كتبت بلغة غير الإنجليزية ووقعت عليها الولايات المتحدة الأميركية، وفي الوقت نفسه هي المعاهدة الوحيدة في تاريخ أميركا التي تعهدت فيها الولايات المتحدة بدفع ضريبة سنوية لدولة أجنبية.
استقبل المسلمون خبر هذا النصر باحتفالات عظيمة لا سيما وأن هذا النصر على الصليبين جاء بعد ضياع الأندلس وطرد الصليبين للمسلمين منها، وتعذيبهم والتفنن في قتلهم، فعمت الفرحة أجواء العالم الإسلامي، وكبَّرت مآذنُ مكة، والمدينة، والقدس، وبومباي، ودمشق، والقاهرة، و سمرقند، وجميع ديار المسلمين، وصلى المسلمون هناك صلاة الشكر احتفالًا بنصر الله المؤزر على يد القائد المجاهد خير الدين بربروسا، وابتهج السلطان العثماني شكر لله بهذا النصر المبين، وقام بتعيين خير الدين بربروسا أميرًا عامًا للأساطيل الإسلامية العثمانية.
وبعد أن أصبح البحر المتوسط بيد العثمانيين، تابع خير الدين بربروسا غاراته على مدن إسبانيا الساحلية لإنقاذ المسلمين منها ولم يتوقف وهنا ينقل الكاتب جهاد الترباني في كتابه "مائة من عظماء أمة الإسلام" رسالة بعث بها أهل غرناطة إلى السلطان سليمان القانوني جاء فيها "قد كان بجوارنا الوزير المكرم المجاهد في سبيل الله خير الدين وناصر الدين وسيف الإسلام على الكافرين، علم بأحوالنا وما نجده من عظيم أهوالنا فاستغثنا به فأغاثنا، وكان سبب خلاص كثير من المسلمين من أيدي الكفرة المتمردين، نقلهم إلى أرض السلام وتحت إيالة طاعة مولانا السلطان".
ويقول زكريا سليمان بيومي صاحب كتاب قراءة جديدة في تاريخ العثمانيين في التفريق بين الجهاد البحري والقرصنة "إن ما ذكر عن الدور الذي لعبه الأخوان يؤكد حرصهما على الجهاد في سبيل الله وهو مقاومة القرصنة المسيحية في البحر المتوسط وكذلك مقاومة أطماع إسبانيا والبرتغال في الممالك الإسلامية في شمالي إفريقيا". 
المصدر هنا

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق